منتديات سرتا الأدبية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات سرتا الأدبية

اقرأ ففي البدء كانت الكلمة..و في النهاية تبقى الكلمة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 وغدا يبدأ الرحيل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mohamed
زائر




وغدا يبدأ الرحيل Empty
مُساهمةموضوع: وغدا يبدأ الرحيل   وغدا يبدأ الرحيل Emptyالسبت سبتمبر 08, 2007 4:47 am

نسيت كل شيء..من أنا ومن أكون. لا اعرف لي وجهة. كل ما اعرفه أنني أعيش في هذه الغرفة/ الزنزانة مع أمي، وأخي إدريس تحت سلم عمارة السيد عباس. نكتريها منه بمائة درهم شهريا. فرشتها أمي بزربية قديمة، وبعض الأغطية البالية. قرب الوسادة نضع قنينة ماء، وصينية عوجاء بها أربعة كؤوس، وإبريق شاي أكبر مني بعشر سنوات، مازال يستحملنا، ويستحمل شاينا الرديء، غير المنعنع.
لا اعرف كيف نجمع المائة درهم هاته كل شهر. لذلك لم تكن لنا مع السيد عباس أية مشكلة.
اسمي؟..لن ينفعكم اسمي في شيء...اسمي ككل الأسماء. أكاد أنسى اسمي لأنه لم يناديني به أحد منذ زمن طويل.. لي ألقاب كثيرة. أعرف بها في حارتنا، وحتى بين أسرتي الصغيرة. أمي تناديني بألقاب كثيرة: ( الخنزيرة- الحلوفة- المنحوسة- الممسوخة...ال...) ألقاب كثيرة أنستني اسمي الأول.
سني؟...أعلم أنني من مواليد الثمانينيات، ولكن لا يهم...حقيقة أنني أظهر أكبر من سني. ولكن ماذا سأفعل. هذه هي حياتي ودنياي..
نعم، عند البعض مازلت صبية، وعند آخرين نضجت قبل الأوان وبدأت تظهر أنوثتي، بل بدأت تغري البعض الآخر. ولكن ماذا أفعل؟. هذه هي حياتي..
نعم...كنت صبية، وكانت لي أحلام كالصبايا. كنت أحلم بحقل فسيح أخضر، وأبقار كثيرة أركض بكل قواي، فراشات هنا وهناك. أضحك،أركض، أقفز..ولكن أفقت ذات مساء، وجدتني بلا أحلام، وبلا طفولة، وبلا ماض، وبلا حاضر ولا مستقبل. كنت كالصبايا في المدرسة، كنت أخرج وأنا في طريقي إلى المدرسة. أصابعي البضة تمسك بشوق المحفظة. لكن نسيت الآن المدرسة. نسيت أنني كنت يوما في المدرسة. لا اعرف القراءة والكتابة. كانت لسعات عصا المعلمة تؤلم يدي الصغيرتين...خلقت الأعذار لكي لا أذهب إلى المدرسة، لأتجنب معلمتي الجلادة.
وذات صباح وجدتني أكنس البيت، وأمسح جنباته، وأرضه المحفرة. أصبحت مسئولة عن البيت – هذه المغارة التي نكتريها تحت سلم العمارة بمائة درهم شهريا- مسؤولة عن البيت كلما غابت أمي .
أبي؟...أبي لا أعرف عنه أي شيء.كل ما أعرفه أنه طلق والدتين واختفى. لم يعرف أحد أين اتجه. أنا وأخي إدريس- الذي يصغرني بسنة ونصف- كنا عبئا على والدتي. والدتي التي شاخت قبل الأوان.
لا أعرف كيف أصبحت أنا وأخي نجوب الشوارع. كلانا يحمل كيسا بلاستيكيا كبيرا نجمع كل ما نجده في القمامات:ورق-خبز يابس-قطع معدنية-كاغط- لدائن- خرق بالية.وكثيرا ما ننادي بأعلى صوتنا:<< خبز يابس يا محسنين..لله يا كرماء>>.
هكذا كنا نعين والدتنا على دوائر الزمان. أمنا أيضا تتجه إلى أحياء أخرى. إننا في بيتنا نقتسم الحارات، والدروب، ونلتقي مساء لنعرض الرزق الذي جمعناه طيلة يومنا.
فكرت يوما رغم حداثة سني ألا أكون هكذا. أعطتني أمي لأسرة. ما زلت أذكر ذلك. كانت ربة البيت من خلال كلامها أمينة وطيبة. كنت اعمل كل شيء. حتى إسكات الرضيع، وتغيير غياراته كان من اختصاصي. ظهري اعوج من كثرة إركابه. الويل ثم الويل لي إن كسرت شيئا. أعاقب عليه، ويخصم ثمنه من تلك الدريهمات التي كانت تعطى لامي أول كل شهر، وإذا ما شكوت أمري لامي تقول لي: <<اصبري...اللهم هكذا..على الأقل لقمة مضمونة وفراش وغطاء متوفران>>.
آكل لوحدي ما فضل داخل المطبخ. ووقت النوم أفرش حصيرا، وإسفنجة تنبعث منها رائحة كريهة، تؤلمني في خياشيمي.. مازالت صورة الطرحة التي أكلتها عالقة بمخيلتي. لم أعرف كيف بللت فراشي ليلا، وعندما علمت سيدتي بذلك جردتني من ملابسي، وانهالت علي ضربا بحزامها، ثم أكملت بالرفس وجر الشعر.
لم يبق مني إلا هيكل آدمي- أحمد الله أنني أطوف الآن في هذه الحارة وأزقتها بكل حرية وراحة- لقد كانت هذه العلقة التي أخذتها من سيدتي سببا في هروبي إلى أمي..دمعي على خدي.
حاولت أمي إقناعي بالعودة إلى سيدتي..ولكن تشبث أخي بين وهي ترى نواحي وإلحاحي بأنني سأعيد الكرة ثانية إن أخذتني إليها . فلم تجد أمي بدا من الاستسلام لرغبتي. وأمام حيرة أمي وجدتني مع أخي إدريس بشوارع هذا الحي أحمل كيسا بلاستيكيا، أجمع ما سخره الله لنا.
وجدت في هذا التجوال بين الدروب راحة، وحرية، ورياضة. المحسنون كثيرون، وأولاد الحرام أكثر. كل يوم ورزقه. عندما نجتمع مساء نعد ما جمعناه من نقود. المبلغ مغر جدا، مائة وخمسون درهماكل يوم، وأحيانا أكثر.أما ما نجمعه من خبز يابس فنبيعه لتاجر العلف والنخالة بثمن درهمين للكيلو الواحد. أما الورق واللدائن والخرق، والقطع المعدنية فنبيعها للحاج المعطي صاحب الخرداوات.
كم مرة كان أخي إدريس يعد النقود التي جمعناها، ويقهقه قائلا: << سنصبح من الأغنياء في وقت وجيز. فأضع كفي على فمه، وأشهر في وجهي أصابعي الخمسة..اسكت سيدب الحسد إلى قلب سامعينا، وربما يفعلون مثلنا، وبالتالي يقل الرزق.
نعم...إنها حرفة صعبة ، وقد علمتني أمي كل فنونها، وتقنياتها. العطاء يكون كثيرا يوم الجمعة وفي رمضان، وأمام أبواب المساجد ، وفي المستشفيات.
لم أكن اعرف أن كل شيء يمكن أن يتغير في طرفة عين، وان الفرح يتحول بقدرة قادر إلى حزن، والبيت إلى سجن.
مازلت أذكر ذلك جيدا. كان اليوم خميسا. جلسنا ثلاثتنا حول الصينية. بدأت أمي تعد محصول اليوم كالعادة بعدما ملأت الكؤوس شايا، ووضعت خبزا وزيتونا أسود كان أخي إدريس شاردا، لم يكن كعادته.
- إدريس..ما بك؟..(تسأله أمي)
- لا شيء يا أمي...متضايق شيئا ما..سأخرج للجلوس مع الأصدقاء بالزقاق..
- أبعد يا إدريس عن ذلك البوهالي..
يهز إدريس كتفيه، ويغادر البيت.
- ما به أخوك؟...هل تشاجر مع أحد؟...أتخاصمت معه؟(تسألني بحيرة).
- لا يا أمي...لا أدري ما به(أجبت بكل براءة).
في آخر الزقاق، في زاوية مظلمة، يفترش" با جلول" الملقب ب(الجانكا) مجموعة من الكارطون...إنه بوهالي الدرب. يقطر فمه حكمة، وفلسفة. وأحيانا غرائب، وعجائب تشبه المسليات. يتحلق حوله بعض أولاد الدرب، يسمعون مغامراتهن وشقشقاته..الكل يعطف على با جلول. الكل يلبي طلباته: أكل، ثياب بالية، حريرة في رمضان.
جلس إدريس مع بعض رفاقه متحلقين حول با جلول. مد هذا الأخير لإدريس سيجارة من صنع يده.
- ما هذا يا با جلول؟( يسأل إدريس).
- سيجارة معطرة، ومدرحة، ومفخخة...(يضحك الجميع).
- مفخخة؟..معطرة؟..لم أفهم...
- نعم يا ولدي إدريس..خذ ودخن. هذا صاروخ من صنع يدي، سيأخذك إلى عالم لم تكن تحلم به...فيه تعيش أسعد أوقاتك.
تردد إدريس بعض الشيء، ولكن احد الرفاق بادره قائلا:
- دخن أيها البدوي..دخن الصاروخ. ستجد نفسك في اليابان، تحلم بكوادالوبي، والطاليات. دخن آعزيزي الجوان، وانس حالك وحالي. نحن أولاد الزقاق لا احد يسند ظهرنا. منسيون، ضائعون، مهمشون.
ويمد له (حروش) أحد أصدقائه النباشين(الميخاليين) كأس نبيذ رخيص.
- اشرب ويسكي ماروكان..وانس الدنيا يا ولد العريان..
- ولكن...أنا لا أشرب..ولا أدخن(يرد إدريس بخجل).
يخاطبه باجلول بصوت ثقيل:
- كلنا كنا هكذا...أول مرة..كنا أبرياء كالرضع...وطاهرين كالثلج..ولكن الدنيا غدارة..والأيام دوارة...اشرب حتى تصبح رجلا، وتعرف الدنيا..الكأس يجعلك تعرف الناس جيدا، وتقف في هذه الدنيا على أساس...أشرب حتى يكون لك شأن بين أقرانك في الحارة.
يأخذ إدريس الكأس، يصبها في بطنه. يأخذ(الجوان) يدخنه بنهم..
- الله على راحة..يا لها من نشوة. كنت ضائعا..والله كنت ضائعا..

- قلتها لك- يرد عليه با جلول- والآن مرحبا بك في عالمنا.عالم البوهالة، وستعرف منذ الآن دور هذا الصاروخ الذي دخنته.
- قل لي يا باجلول- (يسأله حروش)- سمعت أحدهم يقول بأنك كنت في الطاليان في شبابك، وبأن في إيطاليا الفلوس مثل الأرز. والشقراوات يغرمن بأسود الرأس مثلنا- الطاليان؟؟...- يرد باجلول بنوع من الحسرة- آه على الطاليان !!.. إيه يا ولدي... الطاليان امتلأ بهبش...
أنا من حملني إلى بوهالي، وجعلني في هذه الحالة غير الطاليان...لا تفكرني في الماضي..املأ لي كأسا واتركني أنسى...أنسى..
- بالله عليك يا با جلول أن تحكي لنا عن قصتك مع الطاليان(يطلب منه إدريس بإلحاح).
- ألم تسمع قصة باجلول ومغامراته في الطاليان؟...لقد حكاها لنا أكثر من مرة. وعموما اتركه، عندما يلعب الكأس برأسه سيحكي قصته بدون توقف.(يقول رضوان صديق حروش).
- اسمعوا يا أولادي...الطاليان تركني عريان. يا ما لعبت بالنقود، ودست ركامات النقود...هذان الرجلان( ويشير إلى رجليه)ركبت أفخم السيارات. وعرفت أجمل الجميلات، وأحلى الشقراوات..إيه...الأيام غدارة..والدنيا بنت الحرام..كنت وسيما..و" بوكوص"، والفلوس كانت تجري في يدي جريانا..كنت في الطاليان تاجرا..أبيع وأشتري..
- ماذا كنت تبيع وتشتري يا باجلول؟..(يقاطعه إدريس مستفسرا).
- كنت يا إدريس أتاجر والسلام..أبيع كل شيء..احمل فوق ظهري، وعلى كتفي سلعا متنوعة، مثل الحمار. وفي بعض الأحيان أفرش سلعتي على أرصفة الشوارع، أو في بعض الأسواق الإيطالية بنواحي" باري"و" بولوني". كنت على كل حال أحسن مما أنا عليه الآن..ولكن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئا..
- كيف يا باجلول؟..(يسأل إدريس بفضول).
- تمهل، واصبر، سأحكي لك كل شيء مثل الخرافة.(يرد باجلول باعتزاز). يا ولدي إدريس...عندما أراد الله أن يعذبني في الطاليان التقيت بشخص من دوارنا من أولاد سي بن داود. النحس دائما في أعقابه..علامات السخط بادية على جبهته. اسمه العربي، ويلقب ب(الباطروس) يعني (عوا). كانت عنده حديدة فاخرة- يعني يا ولدي سيارة- لباسه أنيق جدا يشبه أحد نجوم هوليود. من رآه يظن أنه " غرازياني" أو " فالانتينو". فرح بملاقاتي..وأخذني معه في سيارته إلى أفخم المطاعم، وألبسني أحسن الألبسة..فأحسست أنني أعيش أسبوعا في الجنة. نسيت السلع، والأحمال، والأسواق...وبعدها طلب مني الابتعاد عن هذه الحرفة التي لا يحترفها إلا الشحاذون. وان أعمل معه كمساعد له.. قبلت بالطبع..قبلت..لقد كانت الأجرة مغرية جدا...تشينكو ميلا في اليوم...خمسة آلاف ليرة في اليوم...قبلت لأني عندما سمعت هذا المبلغ، رأسي طار من مكانه.
- وما هو العمل الذي كنت تقوم به مقابل هذا الأجر المرتفع؟.(يسأل إدريس).
- لا شيء...طلب مني الوقوف أمام علامة من علامات المرور، ومراقبة الزقاق لمدة ساعتين زوالا، وبعدها آخذ الخمسة آلاف ليرة...فقط...هذا هو عملي..
- عمل مريح جدا ياباجلول.(يقول حروش)..يا ربي لا تحرمنا منه..- مريح جدا...لقد تغير ت حالتي، وامتلأت جيوبي، وانتفخ بطني. وغيرت سجائري السوداء الرديئة بأخرى شقراء ناعمة. لقد فارقت" التبوفيرة" ودمت على هذا الحال
أربعة أشهر. بعدها سألني هل أقدر على نقل أمانة إلى عنوان معلوم..والمقابل خمسون ألف ليرة..بالطبع قبلت..عملي انحصر في تسلم علبة سوداء مسدودة من الباطروس، ونقلها إلى العنوان الذي سلمه إلي. ومن بعد أصبحت انقلها من مدينة إلى أخرى.
وفي يوم وأنا واقف أتكلم مع الباطروس إذ وقفت أمامنا سيارة سوداء فارهة، بها مجموعة من الإيطاليين. أطل واحد منهم برأسه من النافذة الخلفية للسارة السوداء. ما إن عرفه الباطروس حتى اصفر وجهه ،وجحظت عيناه. أنا لم افهم شيئا..لم يمهلنا الإيطالي لنفهم، بل اخرج مسدسا وسدده صوب الباطروس ثم أطلق خمس رصاصات، استقرت واحدة منها بين ضلوعي، فسقطت مضرجا في دمائي، لا أعلم ماذا جرى بعد ذلك..
عندما فتحت عيني، وجدتني بغرفة الإنعاش بمستشفى" سالفاطوري"بباري. أنابيب بأنفي، وفمي. كارابيان واقفان أمام باب الغرفة..وبعدما شفيت، عرفت بأن العربي الباطروس مات، قتله المافيوزي بأربع رصاصات، لأنه حاول أن يلعب بهم. أما أنا فالله سترن وعمري مازال طويلا...عميد الشرطة الإيطالي قال حينها وهو يتفرقع ضحكا، بأنني مثل القطط، لي سبعة أرواح، ورصاصة المافيوزي لم تستطع أن تقتلني...
من المستشفى أخذوني إلى المحكمة حيث حكمت بعشر سنين. بعدها حولوني" طرانسفير" إلى المغرب لأقضي فيه الأيام التي كتبها الله علي..كل ما كنت املكه من مال راح وزال..وأصبحت ربنا كما خلقتنا..الكل هجرني، وتناسوني، وقرروا أنني مت..لم أجد من يلمني، ويسترني غير هذا الزقاق، وأناس هذا الزقاق..وهاأنا أعيش مع مصيري أدخن الصواريخ، وأشرب" الجانكا" لأنسى أيامي، وأنسى حياتي التي ضاعت..
- لا نكره أن نذهب إلى إيطاليا نحن أيضا، لنعيش أيامنا( يقول حروش).
- إيه يا ولدي حروش، لو ذهبتم إلى إيطاليا فإن الله قد رضي عليكم. الفلوس الصحيحة والغليظة توجد في "الغبرة". أما"الحلاسة" فإنها أصبحت سعيا وشحاذة.
- ولكن يا حروش هل لك أوراق(يسأل إدريس).
- أنا يا إدريس كلي أوراق..لا تهمني هذه الأوراق. " سأحرق" مثل "الخوت" دونما حاجة إلى أوراق ولا فيزا، ولا جواز سفر. من الساعة لا شيء يهمني غير العبور إلى الضفة الأخرى..إلى الطاليان...
- "تحرق"..؟..يا أخي حروش لا تتركني وحيدا هنا..رجلي على رجلك..حتى أنا (سأحرك)..إما نغتني ونحضر حديدة فاخرة إلى البلاد، أو نموت هناك..أنا معذب هنا، من الأحسن أن أتعذب وأسعى في بلاد النصارى..
- على فكرة يا إدريس..أريد أن أخبرك بأمر هام..
- ما هو ياباجلول؟..
- أمك...أنني...قد..
ويقاطعه إدريس:
- أمي؟...ما بها أمي؟...
- إني قد سمعت عنها ما لا يليق...وشاهدتن وتأكدت..ولكن لا تعتبرني بصاصا..أو نماما...
- قل..ولا تهتم يا باجلول..
- أمك...رأيتها أكثر من مرة مع الباصطوس..
- ماذا؟..مع الأعرج؟..
- رأيتها أكثر من مرة تدخل براكته، وتخرج معه صباحا باكرا..المهم رد البال..إنك أنت هو رجل الدار.
دخل أخي إدريس إلى البيت عابس الوجه، منقبض الأسارير. نظرنا إليه باستغراب، لم نعهد أن نراه على هذه الحالة.
- أمي.. أمي..(يصيح إدريس)..
- ماذا يا إدريس؟..
- أمي سمعت كلاما غريبا بالحارة...كلاما آلمني كثيرا..وأريد..
وتقاطعه أمه..
- اسمع يا ولدي..قبل أن تحكي كلامك ،عندي خبر أريد أن أزفه إليك أنت وأختك..
- ما هو هذا الخبر يا أمي(نسألها باندهاش).
- السيد الباصطوس، يعني عمكم إبراهيم، سيسكن معنا هنا..في هذه الغرفة.
- ماذا؟...(يصيح إدريس ويهب واقفا) يسكن معنا، وفي هذه الغرفة...هذه الغرفة ضاقت بنا نحن الثلاثة فما بالك بأربعة. ثم لماذا يسكن معنا؟...ما هي المناسبة؟ وليكن في علمك يا أمي فهو ليس بعمنا...ولن يكون عمنا أبدا..كل واحد عم نفسه.
وأسأل أمي بخجل:
- يا أمي.لماذا سيسكن معنا؟..
- لأننا نعمل معا..هو مبتور الرجل واعور، أدور أنا وإياه في شوارع المدينة، والناس ترأف لحالهن وما نجمعه نقسمه مناصفة.
- ولماذا سيزاحمنا في هذه الحفرة يا أمي؟..(يسأل إدريس بنرفزة).
- يا ولدي تربية الأولاد صعبة...ونحن الثلاثة نحتاج إلى رجل يحمينا..وعلى العموم هو يكسب كثيرا، وسيصبح ابتداء من هذا الأسبوع أبا لكم..
- أبا لنا؟...(يصيح إدريس مندهشا)..ما هذا الجنون؟..والله لأفتح كرشه..
كان لهذه الكلمة(أبا لكم) وقعها السحري علي. لم أسمع كلمة (بابا) أبدا...ولا اعرف ملامح محددة أعطيها صفة الأب، وأناديها في حلمي ويقظتي ب(أبي).
ويستأنف إدريس كلامه:
- كيف بالله عليك يا أمي، أن تقرري الزواج من هذا المعوق، وأنت في هذه السن..إذن سنصبح خدامه وعبيده. سيتسلط على رقابنا باسم الأبوة التي سقطت علينا فجأة، سيتصرف في عرقنا وما نكسبه كل يوم..حسنا بما أن الأمر هكذا...أنا أيضا عندي لك مفاجأة يا أمي..
- مفاجأة؟. ما هي يا ولدي؟..الله يسمعنا أخبار الخير..
- نعم يا أمي مفاجأة..إنني سأهاجر إلى إيطاليا..
- ماذا؟..تهاجر إلى إيطاليا؟..وأين الأوراق؟..
- سأحرق..
- ماذا؟...تحرك؟..أتريد أن تموت؟...
- وماذا يقع لو مت؟...أنا ميت حيا هنا. أن أسعى في بلد الطاليات خير لي من السعي في بلدي الذي تنكر لي و لأقراني...درسنا وتعلمنا متنا...انقطعنا عن الدراسة وبقينا أميين متنا...النصارى على الأقل إنسانيون..في قلوبهم الشفقة والرحمة...
- الشفقة؟...يا ولدي ألم تسمع النصارى يكرهون العرب؟. وأنهم عنصريون؟..
- لا يا أمي نحن العنصريين..نحن الجفاة، القساة. كبيرنا لا يرحم صغيرنا. وغنينا لا يعطف على فقيرنا...ألم تسمعي يا أمي ماذا يفعل النصارى مع الكلاب والقطط؟.. وهل سيكون الحيوان أفضل مني عندهم؟..أنا أمامهم قبل كل شيء إنسان..أما هنا فقد ضاع مني الإنسان منذ زمان بعيد..
- ستتعذب يا ولدي كثيرا وما زلت صغيرا..كم من " الحراكة" غرقوا وماتوا..
- يا أمي ألم يكفك الموت الذي أموته هنا؟..أ هذه حياة، وعيشة نعيشها؟..بالله عليك أ هذا سكن؟..إننا نسكن تحت درج، الكلاب تعافه...أمثالي يا أمي في الثانويات، والجامعات والمعاهد..طول النهار وأنا أطوف وأختي الأزقة، نطلب هذا ونسأل ذاك..هذا يعطينا، والآخر ينهرنا، وثالث ينبس أمام أختي بكلمات مخجلة..ألم يكفك هذا؟...ألم يقنعك الموت الذي نموته كل يوم..لم لا أجرب أنا أيضا حظين وأحرك..إما ربحة، أو ذبحة.
نزل علي الخبران- خبر زواج أمي، وخبر رحيل أخي- كالصاعقة. دوار شديد ألم برأسي. لم أعد أعي شيئا..شريط حياتي يمر أمامي بسرعة فائقة، حتى أني لم أعد أميز بين صوره. ساعتها وجدتني وحيدة في هذا الكون، لا أعرف كيف جئت، ولا متى جئت. كل شيء مسدود أمامي ومغلق. الأفق مسدود، الأمل مسدود، والقلب مسدود، وكل شيء أمامي مسدود.
وجدتني أقف في مفترق الطرق. أخ سأفقده إلى الأبد. وأم سأفقدها كذلك..الباصطوس سيأكل رزقنا..سيجعلنا كحمار الطاحونة، ندور وندور بلا توقف. لم أعد أعرف إلى أين أعرج يمينا أو يسارا، كلا الاتجاهين مسدودان أمامي . ساعتها برقت في عيني أفكار. بدأت تناديني، تستهويني. تولدت في دواخلي شياطين كثيرة، عندما عرفت أن لا شيء أصبح يغريني بالبقاء هنا تحت هذا الدرج. تحت هذا الدرج لن يسمعني أحد...كما أن هذا الخم لن يسعني وزوج أمي...خاصة وانه عاكسني لأكثر من مرة، عندما أمر من أمامه وهو جالس قرب براكته. إذن لن يكون في بيتنا أب، ولكن سيكون في بيتنا ذئب أعرج، شرس. ولا تجتمع النعجة والذئب في مكان واحد. يكفي أن أصبحت أمي نعجة، وانقادت لهذا الذئب الأعور بسهولة. أما أنا فلا ..وألف لا.. الموت أهون علي من العيش تحت سقف واحد مع هذا الذئب الأجرب. هنا تيقنت من شيء واحد، وهو أن لا شيء يغريني بالبقاء هنا، فإذا كان أخي قد وجد الحل لمشاكله،وهو" الحريك". ومن قال لي بأنه هاجر إلى إيطاليا؟..ربما ذهب إلى مدينة أخرى بحثا عن رزقه هناك.. لم لا أفعل مثله وأحرك أنا أيضا...فالمكان أصبح بالنسبة لي موحشا...إذن غدا سيبدأ الرحيل. لا بد أن يبدأ الرحيل غدا.. // ..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
وغدا يبدأ الرحيل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سرتا الأدبية :: منتديات النثر :: منتدى القصة القصيرة-
انتقل الى: